فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {الذين يُنفِقُونَ في السَّرَّاء والضراء}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما بين أن الجنة معدة للمتقين ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الإنسان من اكتساب الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {الذين يُنفِقُونَ في السَّرَّاء والضراء}:

.قال الفخر:

فيه وجوه:
الأول: أن المعنى أنهم في حال الرخاء واليسر والقدرة والعسر لا يتركون الإنفاق، وبالجملة فالسراء هو الغنى، والضراء هو الفقر.
يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة، وعن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب، والثاني: أن المعنى أنهم سواء كانوا في سرور أو في حزن أو في عسر أو في يسر فإنهم لا يدعون الإحسان إلى الناس، الثالث: المعنى أن ذلك الإحسان والإنفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم، أو ساءهم بأن كان على خلاف طبعهم فإنهم لا يتركونه، وإنما افتتح الله بذكر الإنفاق لأنه طاعة شاقة ولأنه كان في ذلك الوقت أشرف الطاعات لأجل الحاجة اليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين. اهـ.

.قال الألوسي:

{فِى السَّرَّاء والضراء} أي في اليسر والعسر قاله ابن عباس؛ وقيل: في حال السرور والاغتمام، وقيل: في الحياة وبعد الموت بأن يوصي، وقيل: فيما يسر كالنفقة على الولد والقريب وفيما يضر كالنفقة على الأعداء، وقيل: في ضيافة الغني والإهداء إليه وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم، وأصل السراء الحالة التي تسر والضراء الحالة التي تضر، والمتبادر ما قاله الحبر، والمراد إما ظاهرهما أو التعميم كما عهد في أمثاله أي أنهم لا يخلون في حال مّا بإنفاق ما قدروا عليه من كثير أو قليل. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

ومعنى الآية: أنهم رغبوا في معاملة الله، فلم يبطرهم الرخاء، فينسيهم، ولم تمنعهم الضراء فيبخلوا. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {والكاظمين الغيظ}:

.قال الفخر:

ومعنى قوله: {والكاظمين الغيظ} الذين يكفون غيظهم عن الإمضاء ويردون غيظهم في أجوافهم، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم وهو كقوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]. اهـ.

.قال القرطبي:

الغيظ أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان لكن فُرْقَانُ ما بينهما.
أنّ الغيظ لا يظهر على الجوارح، بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل مّا ولابدّ؛ ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم.
وقد فسر بعض الناس الغيظ بالغضب؛ وليس بجيد، والله أعلم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{والكاظمين الغيظ} عطفٌ على الموصول، والعدولُ إلى صيغة الفاعلِ للدِلالة على الاستمرار، وأما الإنفاقُ فحيث كان أمرًا متجددًا عبّر عنه بما يفيد الحدثَ وهو التجدد. اهـ.

.قال الفخر:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» وقال عليه السلام: لأصحابه «تصدقوا» فتصدقوا بالذهب والفضة والطعام، وأتاه الرجل بقشور التمر فتصدق به، وجاءه آخر فقال والله ما عندي ما أتصدق به، ولكن أتصدق بعرضي فلا أعاقب أحدا بما يقوله في حديثه، فوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوم ذلك الرجل وفد، فقال عليه السلام: «لقد تصدق منكم رجل بصدقة ولقد قبلها الله منه تصدق بعرضه» وقال عليه السلام: «من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء» وقال عليه السلام: «ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء ومن جرعة غيظ كظمها» وقال عليه السلام «ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب». اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {والعافين عَنِ الناس}:

.قال الفخر:

قال القفال رحمه الله: يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا، فنهي المؤمنون عن ذلك وندبوا إلى العفو عن المعسرين.
قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280] ويحتمل أن يكون كما قال في الدية: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَئ} [البقرة: 178] إلى قوله: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280] ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مثلوا بحمزة وقال: «لأمثلن بهم» فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة، فكان تركه فعل ذلك عفوا، قال تعالى في هذه القصة: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين} [النحل: 126] قال صلى الله عليه وسلم: «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه» وروي عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه: ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء اليك. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والعافين عَنِ الناس} العفو عن الناس أَجلُّ ضُرُوب فعل الخير؛ حيث يجوز للإنسان أن يعفو وحيث يتّجه حقه.
وكل من استحق عقوبة فتُرِكت له فقد عُفي عنه.
واختلف في معنى {عَن النَّاسِ} فقال أبو العالية والكلبي والزجاج: {والعافين عن الناس} يريد عن المماليك.
قال ابن عطية: وهذا حسن على جهة المثال؛ إذ هُم الخَدَمَة فهم يذنبون كثيرا والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل؛ فلذلك مثل هذا المفسَّر به.
ورُوي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مَرَقَة حارّة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قول الله تعالى: {والكاظمين الغيظ}.
قال لها: قد فعلت، فقالت: اعمل بما بعده {والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}.
فقال: قدَ عَفوتُ عنك.
فقالت الجارية: {والله يُحِبُّ المحسنين}.
قال ميمون: قد أحسنت إليكِ، فأنت حرّة لوجه الله تعالى.
ورُوي عن الأحنف بن قيس مثله.
وقال زيد بن سلم: {والعافين عَنِ الناس} عن ظلمهم وإساءتهم.
وهذا عام، وهو ظاهر الآية.
وقال مقاتل بن حيان في هذه الآَية: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند ذلك: «إنّ هؤلاء من أمتي قليل إلا من عصمه الله وقد كانوا كثيرًا في الأمم التي مضت» فمدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم فقال: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُون} [الشورى: 37] وأثنى على الكاظمين الغيظ بقوله: {والعافين عَنِ الناس}، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك.
ووردت في كظم الغيظ والعفو عن الناس وملْك النفس عند الغضب أحاديثُ؛ وذلك من أعظم العبادة وجِهادِ النفس؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصُّرَعَةِ ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» وقال عليه السلام: «ما من جرعة يتجرّعها العبد خير له وأعظم أجرًا من جرعةٍ غيظٍ في الله» وروى أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أشدّ من كل شيء؟ قال: «غضب الله».
قال فما ينجي من غضب الله؟ قال: «لا تغضب» قال العرجي:
وإذا غضبت فكن وَقُورًا كاظما ** للغيظ تَبْصُر ما تقول وتسمع

فكفى به شرفا تَصبُّر ساعة ** يرضى بها عنك الإله وتُرفع

وقال عروة بن الزبير في العفو:
لن يبلغ المجدَ أقوامٌ وإن شرفوا ** حتى يُذِلُوا وإن عَزوا لأقوام

ويُشْتَموا فترى الألوانَ مُشرِقَة ** لا عَفْو ذُلِّ ولكن عَفْو إكرامِ

وروى أبو داود وأبو عيسى الترمذي عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحورِ شاء» قال: هذا حديث حسن غريب.
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان يوم القيامة ناد منادٍ من كان أجره على الله فليدخل الجنة فيقال من ذا الذي أجره على الله فيقوم العافون عن الناس يدخلون الجنة بغير حساب» ذكره الماوردي.
وقال ابن المبارك: كنت عند المنصور جالسا فأمر بقتل رجل؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ بين يدي الله عز وجل من كانت له يد عند الله فليتقدّم فلا يتقدّم إلا من عفا عن ذنب» فأمر بإطلاقه. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {والله يُحِبُّ المحسنين}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {والله يُحِبُّ المحسنين} فاعلم أنه يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون، وأن تكون للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء.
واعلم أن الإحسان إلى الغير إما أن يكون بايصال النفع اليه أو بدفع الضرر عنه.
أما إيصال النفع اليه فهو المراد بقوله: {الذين يُنفِقُونَ في السَّرَّاء والضراء} ويدخل فيه انفاق العلم، وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الاساءة باساءة أخرى، وهو المراد بكظم الغيظ، وإما في الآخرة وهو أن يبرئ ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة، وهو المراد بقوله تعالى: {والعافين عَنِ الناس} فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير، ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال: {والله يُحِبُّ المحسنين} فان محبة الله للعبد أعم درجات الثواب. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والله يُحِبُّ المحسنين} أي يثيبهم على إحسانهم.
قال سَري السّقَطي: الإحسان أن تحسن وقت الإمكان، فليس كل وقت يمكنك الإحسان؛ قال الشاعر:
بادِرْ بِخَيَرٍ إذا ما كنتَ مُقْتَدرًا ** فليس في كلَّ وقتٍ أنت مُقتِدرُ

وقال أبو العباس الجُمَّاني فأحسن:
ليس في كُل ساعةٍ وأوَانٍ ** تَتَهيّأُ صنائعُ الإحسان

وإذا أَمْكَنتْ فبادِر إِليها ** حذَرًا من تَعَذُّر الإمكان

.قال الألوسي:

{والله يُحِبُّ المحسنين} تذييل لمضمون ما قبله و(ال) إما للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولًا أوليًا وإما للعهد عبر عنهم بالمحسنين على ما قيل: إيذانًا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ويمكن أن يقال: الإحسان هنا بمعنى الإنعام على الغير على وجه عار عن وجوه القبح، وعبر عنهم بذلك للإشارة إلى أنهم في جميع تلك النعوت محسنون إلى الغير لا في الانفاق فقط.
ومما يؤيد كون الإحسان هنا بمعنى الإنعام ما أخرجه البيهقي أن جارية لعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها فقالت: إن الله تعالى يقول: {والكاظمين الغيظ} فقال لها: قد كظمت غيظي قالت: {والعافين عَنِ الناس} قال: قد عفا الله تعالى عنك قالت: {والله يُحِبُّ المحسنين} قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى، ورجح بعضهم العهد على الجنس بأنه أدخل في المدح وأنسب بذكره قبل. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {الذين يُنفِقُونَ} يجوز في محله الألقاب الثلاثة، فالجر على النعت، أو البدل، أو البيان، والنصب والرفع على القطع المشعر بالمدح، ولما أخبر بأن الجنة مُعَدَّة للمتقين وصفهم بصفات ثلاث، حتى يُقْتَدَى بهم في تلك الصفات.
قوله: {والكاظمين الغيظ} يجوز فيه الجر والنَّصب على ما تقدم قبله.
والكَظْم: الحبس، يقال: كظم غيظه، أي: حبسه، وكَظَم القربة والسقاء كذلك، والكظم- في الأصل- مخرج النفَس، يقال: أخذ بكظمه، أي: أخذ بمجرى نفسه.
والكُظوم: احتباس النفس، ويُعَبَّر به عن السكوت، قال المبرد: تأويله أنه كتمه على امتلاء به منه، يقال: كَظَمْتُ السِّقَاءَ، إذا ملأته وسددت عليه، وكل ما سددت من مجرى ماء، أو باب، أو طريق، فهو كَظْم، والذي يُسَدّ به يقال له: الكظامة والسدادة، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض: كظامة، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة، والمَكْظُوم: الممتلئ غيظًا، وكأنه- لغيظه لا يستطيع أن يتكلم، ولا يُخرج نفسه، والكظيم: الممتلئ أسَفًا.